الكلمة الافتتاحية للكلي القداسة رئيس اساقفة القسطنطينية روما الجديدة والبطريرك المسكوني برثلماوس الاول
«قدسية المكان والحوار»
ضمن المشاورات الأكاديمية الدولية الثانية عشرة بين اليهودية والمسيحية الأرثوذكسية،
بعنوان: «قداسة الموضع – قداسة الفضاء»
(8 كانون الأول/ديسمبر 2025، جنيف – سويسرا)
صاحب السيادة المتروبوليت إيمانويل متروبوليت خلقيدونية؛
الحاخام العزيز مارك دراتش، رئيس اللجنة اليهودية الدولية للمشاورات بين الأديان؛
أصحاب السيادة، وأصحاب السعادة، ؛
أيها الحاخامات الموقرون، والإكليروس، والباحثون؛
أيها الضيوف الكرام؛
سيداتي سادتي؛
إن مشاركتنا في هذا اللقاء الثاني عشر للمشاورات الأكاديمية الدولية بين اليهودية والمسيحية الأرثوذكسية لا تُشكّل لنا مجرد سبب للفرح، بل هي واجب روحي نلتزم به. فالموضوع المختار لهذا العام، «قداسة الموضع – قداسة الفضاء»، ليس اختيارًا موضوعيًا ذا طابع أكاديمي فحسب، بل هو دعوة للتأمل في الأسس العميقة لهويتنا الروحية ذاتها.
فعندما نتحدث عن الفضاء، لا نعني حصريًا الأبنية والحجارة والعمارة التي نحترمها ونقيم فيها، ولا نقتصر على البعد الهندسي للمكان. بل يتجه فكرنا قبل كل شيء إلى تلك الفضاءات الداخلية المقدسة التي ننمّيها في داخلنا، في «المخدع الداخلي» للقلب، وكذلك إلى الفضاء المشترك الذي ينفتح من خلال الحوار، والتضامن، والسلام مع إخوتنا البشر.
نرغب اليوم، مع انطلاق أعمالكم، في أن نضع بين أيديكم بعض الأفكار حول الصياغة الجوهرية، أي العلاقة المتبادلة، بين الفضاء والحوار. فنحن نتعامل مع واقعين متلازمين لا ينفصلان في تقاليدنا. وهما، كما يمكن القول، الإطار والمضمون للقاء الإلهي–الإنساني. إنهما الوسيلتان، والقناتان، اللتان من خلالهما تصبح حضرة الله ملموسة ومُعاشة، وحيث يُدعى الإنسان ويتعلّم أن يجيب بأمانة على هذه الحضرة.
في الخبرة المسيحية الأرثوذكسية، صحيحٌ أن الفضاء المقدّس يتجسّد بصورة منظورة، بل «يلبس لحمًا وعظمًا»، في عمارة الكنائس، وفي الأيقونات، وفي الحياة الليتورجية. غير أنّ حصر معنى الفضاء المقدّس في هذه الأبعاد وحدها يُعدّ خطأً. فجوهره الأعمق، ومعالمه، وغايته، وقوّته المُقدِّسة، لا يمكن فهمها بمعزل عن الحوار. وعندما نقول «الحوار»، نعني الحوار الوجودي بين الله والإنسان، بين السماء والأرض، وبالطبع بيننا نحن، جماعات الإيمان، السائرين معًا عبر التاريخ.
لهذا السبب، لا نرغب في الحديث عن الفضاء المقدّس كمفهومٍ لاهوتي مجرّد، أو كـ«فكرة» ذهنية، أو كتقليدٍ فني. إنما نتحدث عن شهادة حيّة، شهادة تُشكِّلها علاقة الحوار المقدّس وتتشكل بها في آنٍ واحد: الحوار مع الله، ومع «الآخر»، ومع العالم بأسره.
ومن اللافت ما يختبره الزائرون عندما يدخلون كنيسةً أرثوذكسية للمرة الأولى. فكثيرًا ما يصفون إحساسًا بالانتقال، أو العبور إلى ما هو متعالٍ. الجدران والقباب الموشّاة بالكامل بالشخصيات المصوّرة ذات السرد الرمزي، والهواء المشبع بعبق البخور، والنور الذي يبدو كأنه يتحرّك ويتنفّس—لا شيء من ذلك عرضي أو عابر. فهذا الجو مقصود بذاته. ففي الأرثوذكسية، الفضاء المقدّس ليس عنصرًا تزيينيًا، بل هو اعتراف إيماني، وإعلان للإيمان، يكشف بوسائل مادية ما نؤمن به.
إن الهيكل الأرثوذكسي، ببنيته وزخرفته، يشكّل إعلانًا بأن الله دخل في الخليقة، وأن اللوغوس الأزلي صار جسدًا وسكن بيننا. ويصوغ الإنجيلي يوحنا اللاهوتي هذه الحقيقة صياغة لا تُضاهى في مقدّمة إنجيله:
«في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله… كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان. فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس. والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه» (يوحنا 1: 1–5).
ولهذا تحتلّ الأيقونات مكانة مركزية في عبادتنا. فهي ليست أصنامًا، بل شهادة لاتحاد الطبيعتين الإلهية والبشرية في شخص المسيح، نور العالم، الذي أتى ليكشف دعوة الإنسان ورسالة وجوده.
ولا أحد من آباء الكنيسة عبّر عن هذه الحقيقة بوضوح وبساطة أعظم من القديس يوحنا الدمشقي. إذ كتب، في خضمّ عاصفة حرب الأيقونات، عبارته الشهيرة:
«أنا لا أعبد المادة، بل أعبد خالق المادة، الذي صار مادة من أجلي» (القديس يوحنا الدمشقي).
هذا القول صادم في عمقه، إذ يؤكّد الأهمية الجوهرية للفضاء المقدّس في تاريخ المسيحية. فالفضاء، والزمن، والمادة—وهي عناصر خليقة الله—قادرة على أن تُرفَع في كرامتها. إذ يمكنها أن تتحوّل بنعمة الله الإلهية، وأن تُقدَّم له من جديد عبادةً وتسبيحًا. ومن خلال تقليدها الأيقوني والمعماري، تؤكّد الكنيسة الأرثوذكسية أنّ العالم المخلوق قادر على أن يصير سرًّا من أسرار مجده.
يُقدَّس الفضاء لأن الله قدّسه سلفًا بخلقه الكون، إذ وضع حدود السماوات والأرض والبحار (راجع تك 1: 1–10). ويُرفَع الزمن في كرامته لأن الله دخل التاريخ، فتكلّم إلى الآباء والأنبياء (راجع خر 3: 1–6 و1 مل 19: 11–13)، وأمر شعبه أن يستريحوا ويحفظوا يوم السبت يومًا مقدّسًا (راجع خر 20: 😎. وتتحوّل المادة لأن الله اعتنى بشعبه، فأطعمهم (راجع خر 16: 4 ومت 14: 13–21) ومسح خدامه (راجع 1 صم 16: 10–13 ولو 4: 16–21).
في هذه النقطة نقف على أرضية مشتركة، في تناغم عميق مع التقليد اليهودي. فقد وُلدت عائلتنا الروحية ضمن الجغرافيا المقدّسة لإسرائيل، هناك حيث يرتبط المكان بالحضور ارتباطًا وثيقًا: من مذابح إبراهيم إلى سلّم يعقوب، ومن سيناء إلى هيكل أورشليم. فكلٌّ من اليهودية والمسيحية الأرثوذكسية تدركان أن الله لا يبقى غير مبالٍ بصراخ شعبه، ولا ينعزل عن التاريخ. بل يلتقينا في أزمنة معيّنة، وفي أماكن محدّدة، ومن خلال أشخاص بعينهم. لذلك فإن الفضاء المقدّس ليس مجرّد رمز، بل هو علاقة حيّة، علامة على اللقاء بين الإنسان والإله.
وكما قلنا سابقًا، إذا كان الفضاء المقدّس هو الإطار الذي يتمّ فيه اللقاء الإلهي–الإنساني، فإن الحوار المقدّس هو مضمونه. ومن أوضح الأمثلة على هذا التفاعل ما نجده في لاهوت الأيقونة. فالأيقونة، في الفهم الأرثوذكسي، ليست مجرد فنّ ديني، بل هي بيان لاهوتي، وصلاة، وكيان ليتورجي. إنها جسر يتيح لنا الاشتراك في قداسة الشخص المُمثَّل فيها، وذلك دائمًا في نور سرّ التجسّد.
يعمل راسم الأيقونات بروح من الاحترام العميق، متّبعًا مسارًا يُعدّ بحدّ ذاته شكلًا من أشكال الصلاة. فمن إعداد الخشب، ووضع طبقات الجصّ، ورسم التصميم، وتثبيت ورق الذهب، والانتقال في التلوين من الظلمة إلى النور، وكتابة الاسم المقدّس، وصولًا إلى البركة الأخيرة للأيقونة في الكنيسة—كل خطوة هي حوار يملأ الفضاء نعمة. فالأيقونوغرافي يُصغي: يُصغي إلى الكتاب المقدّس، وإلى التقليد، وإلى الشخص القديس الذي يصوّره. وتُجيب الكنيسة بالصلاة والبركة، ويُجيب المؤمنون بالتبجيل، بإضاءة الشموع ورفع تضرّعاتهم.
وإلى ما بعد الأيقونة، فإن بناء الهيكل نفسه يكرّم قداسة الفضاء والحوار بطرق متعدّدة. فالتوجّه نحو الشرق يذكّر بالتوجّه اليهودي نحو أورشليم وبالرجاء في الترميم النهائي. أمّا القبة، ولا سيّما في الطراز البيزنطي، فتعكس السماوات، وتُحيط بالمؤمنين بحضور المسيح والملائكة والقديسين. وأمّا الأيقونسطاس—الذي يُساء فهمه غالبًا على أنّه عائق—فهو في الحقيقة عتبة، يُظهر أن أسرار الله العظيمة يمكن الاقتراب منها لكن لا يمكن استنفادها. إنه نافذ، لكن غير مبتذل؛ شفاف، لكن غير فارغ.
إن هذا التطوّر المعماري يروي حوارًا ممتدًّا عبر قرون: بين الكتاب المقدّس والثقافة، بين الجذور اليهودية والأشكال اليونانية، بين الاضطهادات والحظوة الإمبراطورية، بين الزهد الرهباني والفخامة الملكية. وهكذا، فالحوار ليس مجرّد نقاش، بل مسار تمييز ولقاء ديناميكي يُشكّل الهوية. ويشارك الفضاء المقدّس في هذا التمييز، مذكّرًا إيّانا بأن القداسة ليست حالة جامدة، بل واقع يتكشّف باستمرار.
وإذا كانت الأيقونات والعمارة تُقدّسان العالم المنظور، فإن الترتيل الأرثوذكسي والفنّ الصلاتي (البيزنطي) يُقدّسان العالم المسموع. فهنا يمتلئ فضاء آخر بالنعمة عبر الصوت. ولم تستخدم الكنيسة تقليديًا الآلات الموسيقية، لا لأنها تعتبرها نجسة، بل لأن الصوت البشري هو الآلة المقدّسة بامتياز، إحدى المواهب العديدة التي قدّسها الله عندما خلق الإنسان «على صورته ومثاله» (تك 1: 26).
ويمكننا القول إن العمارة تُشكّل الفضاء الجسدي، والأيقونات تُشكّل الفضاء البصري، أمّا الترتيل فيُشكّل الفضاء الداخلي—فضاء القلب. وهنا يصبح حوارنا مع اليهودية طبيعيًا وعميقًا. فالمزامير، وترتيل التوراة، وألحان الصلاة اليهودية، شكّلت الأسس الأولى للموسيقى الليتورجية المسيحية. والإنشاد البيزنطي، كما التقاليد الموسيقية المتنوّعة في الشرق، يقوم على القناعة بأن الصوت البشري قادر على نقل الكلمة الإلهية بأمانة وتواضع وجمال.
غير أنّ الفضاء المقدّس ليس متحفًا للجمال، ولا نافذة جامدة على الماضي. بل هو دعوة أخلاقية وروحية لعيش إيماننا في قلب العالم. إنه ينادينا إلى القداسة، وإلى العدل، وإلى الرحمة. فالخبرة الجسدية داخل الكنيسة—من الأروقة المفتوحة التي تشبه السفن المستعدّة لنقل المؤمنين، إلى أوضاع الصلاة—تذكّرنا بأن العبادة ليست هروبًا من العالم، بل تحوّلًا من أجل العالم.
في هذا الموضع، نلمس مجددًا صدى قويًا مع التقليد اليهودي. فالفضاء المقدّس لا ينفصل عن المسؤولية الأخلاقية. إذ إن الأنبياء يواجهون إسرائيل على الدوام، داعين إيّاها إلى إدراك أن القداسة بلا عدل، أو العبادة بلا رحمة، ليست سوى وهم. نقرأ في سفر ميخا:
«قد أخبرك أيها الإنسان ما هو صالح، وماذا يطلبه منك الرب، إلا أن تصنع الحق، وتحب الرحمة، وتسلك متواضعًا مع الرب إلهك؟» (ميخا 6: 😎.
ويكتب النبي عاموس بقوة مزلزلة:
«إني أبغض أعيادكم وأرفضها… وليجرِ الحق كالمياه، والبر كنهرٍ لا ينقطع» (عاموس 5: 21، 24).
هاتان الآيتان تؤكدان أن القداسة الحقيقية، في نظر الله، لا بد أن تتجسّد في العدل والرحمة.
ينبغي للفضاء المقدّس أن يفيض فعلًا مقدّسًا في العالم الذي يحبّه الله، هناك حيث يتألّم القريب ويلتمس الغريب الملجأ. فإن لم تقُدنا فضاءاتنا المقدّسة إلى حوار مقدّس مع العالم، فإنها تخاطر بأن تتحوّل إلى هياكل للأصنام وللتقوى الزائفة. وفي الروح نفسها، يذكر النص الصادر عام 2020 عن البطريركية المسكونية بعنوان «من أجل حياة العالم: نحو أخلاق اجتماعية للكنيسة الأرثوذكسية» بشكل لافت:
«لقد خلق الله البشرية على صورته ومثاله، ومنح كل رجل وامرأة وطفل الكرامة الروحية الكاملة لأشخاص صيغوا وفق شخصانية الآب والابن والروح القدس. وبذلك أوجد حيّزًا جديدًا من الحرية المخلوقة، أي الفضاء الإنساني المميّز للحرية» (§62).
فما الذي تعنيه كل هذه الأمور لعمل مشاورتنا اليوم؟ إننا نعيش في عالم ممزّق بالعنف، والاستقطاب، وسوء استخدام الدين لأغراض مدمّرة. وتُدعى تقاليدنا إلى تقديم شهادة مغايرة: شهادة تفيد بأن الله يقدّس الفضاء لكي يقدّس العلاقات الإنسانية. فاليهودية تعلّم أن القدوس يسكن حيث يجتمع شعبه لدراسة التوراة، والمسيحية الأرثوذكسية تعلّم أن ملكوت الله يُعلَن حيث تجتمع الكنيسة للاحتفال بالإفخارستيا. وهذان القولان لا يتناقضان، بل يشيران إلى السرّ نفسه: أن الله يُعلَن من خلال علاقاتنا به، وبقريبنا، وبالخليقة.
سنُدان أمام الله إن لم نُكرم بعضنا بعضًا، باحترامنا للفضاءات المقدّسة بوصفها أماكن للحوار المقدّس. فكيف يمكننا أن نفي بهذا الواجب؟
اسمحوا لنا أن نطرح الأفكار التالية. إننا نُكرم بعضنا بعضًا ونلتقي حقًا عندما:
نصغي إلى روايات الآخر وقصصه.
نتعلّم أن نرى صورة الله في وجه «الآخر».
نعترف بجراح التاريخ بصدق وتواضع، من دون تزييف أو تجميل.
نحترم الفضاءات المقدّسة للآخر من دون السعي إلى الهيمنة عليها أو إعادة تشكيلها.
نعمل معًا من أجل حماية الأماكن المقدّسة لنا معًا، مثل أورشليم والأراضي المقدّسة، وكذلك من أجل حياة جماعاتنا: الكنائس، والمعابد، والمقابر، والمنازل، والمستشفيات، والمدارس.
وإذ نعترف بقداسة المكان، فإننا مدعوون إلى صون ليس المواقع المادية فحسب، بل كرامة الأشخاص الذين يسكنونها أيضًا. فالفضاء المقدّس لا يُنتهك فقط عندما يُدنَّس مزار أو معبد، بل كذلك عندما تُهدَّد كرامة الآخرين وحياتهم. هذه هي الرسالة التي سعينا إلى إبرازها خلال الزيارة الأخيرة لقداسة البابا لاون الرابع عشر إلى القسطنطينية، من خلال إعلاننا المشترك، حيث شدّدنا على ما يلي:
«نرفض على وجه الخصوص كل استخدام للدين واسم الله لتبرير العنف. ونؤمن بأن الحوار الحقيقي بين الأديان، بعيدًا عن كونه سببًا للتلفيق أو الارتباك، هو أمر جوهري لتعايش الشعوب ذات التقاليد والثقافات المختلفة» (29 تشرين الثاني/نوفمبر 2025).
إن حوارنا، بالتالي، ليس حوارًا أكاديميًا فحسب، بل هو حوار روحي، رعوي، وأخلاقي.
أيها الضيوف الكرام، أيها الأصدقاء الأعزاء،
15 Δεκεμβρίου, 2025
الكلمة الافتتاحية للكلي القداسة البطريرك المسكوني برثلماوس الاول
Διαδώστε:

Διαδώστε: