المطران بولس يازجي في لحظة صلاة
لمطران بولس يازجي في لحظة صلاة
الأب بسّام ناصيف
أستاذ اللاهوت الرعائي في معهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ اللاهوتيّ، جامعة البلمند
ونحن على عتبة الدخول الى الأسبوع العظيم المقدس، الى سرّ الصليب والفصح المجيد، وساعة صلب الرب يسوع وقيامته لينهضنا معه، بحسب قوله: “الآن نفسي قد اضطربت. وماذا أقول. أيّها الآب نجّني من هذه السّاعة. ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه السّاعة” (يوحنا ١٢: ٢٧)، نستذكر تلك الساعة الرهيبة الأخرى، ساعة اختطاف المتروبوليت بولس يازجي في حلب في 22 نيسان 2013 حوالي الثالثة من بعد ظهر ذلك اليوم، عند قدومه الجريء الى مدينة حلب مع صديقه المطران يوحنا ابراهيم لتحرير كاهنَين مخطوفَين ظلمًا في حرب وحشية.
وتعود بي الذاكرة الى سحرية يوم من أيام الصوم المبارك سنة 2001، حين دخلتُ كنيسةَ دير سيدة البلمند باكرًا وقد طلعت الشمس، فرأيت المتروبوليت بولس واقفاً في كرسيّه كالمعتاد ينتظر بدء الصلاة، منتصبًا على مثال شفيع أبرشيته المجاهدة، القديس سمعان البار الذي صار للصبر عامودًا. وكما يعلّم سيادته بأن الصلاة تبدأ قبل “الصلاة”، وتستمرّ بعدها، رأيت في يده مسبحة يردّد بهمس مع كل حبّة فيها: “يا ربي يسوع المسيح يا ابن الله ارحمني أنا الخاطئ”. ولمحت عينَيه مشدودتَين نحو أيقونة الصليب المنتصبة في أعلى الإيقونسطاس في كنيسة رقاد السيّدة في الدير، والتي تجاورها أيضًا أيقونتا مريم أم الرب ويوحنا تلميذه الحبيب. كنت أوّل الداخلين الى الكنيسة من باب جانبي، فتسمرّت خوفًا من أن يزعج صوت خطواتي هدوء صلاته الحارة المنسكبة من قلبه الملتهب بحب صليب رب المجد، في لحظة عشرة مع الله.
وفي تلك اللحظة، أدركت كم كان سيدنا بولس يصلي في جهاد، وإمارات التعب مرتسمة على وجهه، إذ لم ينم في تلك الليلة أكثر من ساعتين، بسبب متابعته لعشرات الشبّان والشابات الذين أتَوا من مناطق مختلفة من لبنان وسوريا الى البلمند من أجل الاسترشاد وقضاء فترة روحية يتذوقون فيها لحظات من الحياة مع المسيح بالتوبة والاعتراف، وقد استقبلهم واحدًا بعد آخر في تلك الليلة، بصبرٍ أبويّ ومحبة مضحّية، رغم اتعاب النهار وهمومه. ولكن هذا هو همّه الأكبر، أن يكون طبيبًا روحيًّا يحبّ أبناءه ويعالج أمراض النفوس بالصلاة ويداويها باستدرار النعمة الإلهية. ففي استرشاد طلاب اللاهوت عنده، يشدّد سيدنا بولس على أن يتمحور اهتمام الكهنة الأول بخلاص النفوس، وبقيادة المؤمنين، بدون أي فتور، على طريق التوبة والقداسة والفرح الابدي.
كنت استرق النظر الى وجهه دون أن يشعر بوجودي، لعلني التمس خبرة روحية تغنيني. فرأيت في عينَيه المتسمّرتين على أيقونة صليب ملك المجد وميض نار ملتهبة، وكأنه في لحظة انخطاف ولقاء شخصيّ وحيّ مع الله المُعين الوحيد، والملجأ الأمين، والمرساة وسط عواصف الأزمات، والنور الساطع في دياميس الظلام، والملجأ الأكيد في زمن الضيق، والشفاء في مِحن المرض، ودرع الحماية في المعركة، والسهم المسنن ضد الأعداء. أما شفتاه فتتمتمان بإيقاع أسرع “صلاة يسوع”، وكأنه جنديّ مرتمٍ في معركة ضارية من أجل خلاص نفوس احبائه. إنه يقدّم صلاته الحارّة على هذا الصليب-المذبح قربانًا من أجل انسكاب الرحمة الإلهية على هؤلاء الشباب المتعبين والمُثقَلين، سائلًا المصلوب أن يعرفوه أنه الله المتجسد والمخلص، والقائم والمُقيم، وأن يثبّتهم على الحقّ الذي يحرِّر، كي يسكن فيهم فكر المسيح. فعمر الشباب يتخبط بتيارات فكرية متضاربة تأسر الشباب، وتعصف به ألوان مزيفة يعرضها بعض الإعلام المعاصر الموجَّه ضدّ الحق.
وفي لهيب كلماته النارية الى الشباب في تلك الحقبة، كلمات تتدفق فيها مياه الحب والحنان وسيل من التشجيع في أزمنة الضيق، يدعو المطران بولس الشباب الى الحبّ الكامل، الى الحرّية، الى الالتصاق بيسوع والرجاء به، صارخًا: “يا ابطال الحرية، ثمن الحب الكامل أن نعطي حياتنا بكاملها! الحب الكامل شهادة! إنه قرارنا وحريتنا أن نختار مقدار الحبّ فينا! الشهيد أكبر محبّ وأقوى حرّ! هذا هو مثالنا، يسوع، يا شبابنا. يا ابطال الحرية، يا أبطال الخيارات القوية، تحرروا. اعرفوا الحقّ والحقّ يحرركم. تمردوا على الخنوع، على الكسل، على الاغواء،… يسوع قادم يستنهضنا، هلمّ نرتفع لأنه ينزل الينا، آمين” (نارٌ في عليقة، ص. 101-102).
ها “قد اتت الساعة ليتمجد ابن الانسان” (يوحنا 12: 23). هلمّ ننهض لملاقاته، بصلوات سيدنا بولس، آمين.
المقال نشر في جريدة النهار، السبت ١٧ نيسان ٢٠٢١
H αναδημοσίευση του παραπάνω άρθρου ή μέρους του επιτρέπεται μόνο αν αναφέρεται ως πηγή το ORTHODOXIANEWSAGENCY.GR με ενεργό σύνδεσμο στην εν λόγω καταχώρηση.
Ακολούθησε το ORTHODOXIANEWSAGENCY.gr στο Google News και μάθε πρώτος όλες τις ειδήσεις.










